الإعاقة الفكرية د. عبد الكريم الحلو

بوابة الحكاية :
في هذا الزمنٍ المتسارع الذي امتلأ بالضجيج وخلَت فيه العقول من الأسئلة،
صار الصمتُ عقيدةً، والاتباعُ فضيلةً، والاختلافُ جريمةً لا تُغتفر.
هنا تبدأ الحكاية…
حكايةُ الإنسان
الذي لم يُقعِدهُ عجزُ الجسد،
بل كبّلَهُ عجزُ الفكر
الذي لم يفقد حركته،
بل فقد وجهته.
فالإعاقةُ الحقيقية
ليست في الأطراف التي لا تسير،
بل في العقول التي توقفت
عن السير نحو النور.
من هذه العتبة المؤلمة،
نشرح فسيولوجياً الإعاقة
عن معناها التقليدي،
ونمنحها وجهها الأخطر:
وجه الإعاقة الفكرية…
تلك الاعاقة التي تزرع العمى في البصيرة،
وتحوّل المثقف إلى ظلٍّ يصفّق
لما لا يؤمن به،
وتجعل الأمم تمشي بأقدامٍ قوية،
لكنّها بعقولٍ مشلولة.
فما أكثر الذين يمشون على أقدامهم
بقامةٍ مستقيمة،
لكنّ عقولهم تزحف على الأرض،
وما أكثر الذين يُبصرون الطريق،
لكنّ بصيرتهم مطفأة منذ زمن.
إن الإعاقة الفكرية
لا تُرى بعينٍ مجرّدة،
لكنها تُرى في الصمت المريب
حين يجب أن يُقال الحق،
وفي التصفيق للباطل
حين يكون الصمت خيانة.
تُرى في المثقف الذي جعل من قلمه
بوقًا للسلطان،
ومن فكره سلعة في سوق المنافع.
ذلك هو المعاق الحقيقي
من تخلّى عن وظيفة العقل مقابل راحة الضمير المؤجّل.
الإعاقة الجسدية
قد تُعطل حركة الجسد،
لكنها لا تمنع الفكر من التحليق،
أما الإعاقة الفكرية
فهي قيودٌ على الروح والعقل معًا.
المعاق جسديًا
يمكنه أن يكتب رواية تُبهر العالم،
أو يقود أمة بفكره،
أو يزرع أملاً في قلوب الناس،
أما المعاق فكريًا،
فإنه يقتل كل بذرةٍ خضراء قبل أن تولد، باسم “المنطق” أو “الواقعية” أو “الخبرة”.
كم من مثقفٍ فقد قدرته على السؤال!
كم من أكاديميٍ صار مجرد مؤرّخ للمديح!
وكم من شاعرٍ باع حبره ليكتب ما يُرضي
لا ما يُنير !
الإعاقة الفكرية لا تصيب الجهّال فقط،
بل تصيب من كان يفترض أن يكون وعي الأمة.
حين ينهار المفكر أمام الخوف،
أو حين يبرر الخطأ بحجة “الظروف”،
يصبح جزءًا من منظومة العمى الجماعي التي تشلّ حركة التغيير.
الثقافة ليست شهادات تُعلَّق على الجدران، ولا مؤتمرات تُلتقط فيها الصور.
الثقافة موقف،
والمثقف الحقيقي هو من يقول لا
حين يقول الجميع نعم،
ومن يزرع الوعي لا الوهم،
ومن يكتب كي يوقظ،
لا كي يُصفّق له النائمون.
في زمنٍ صار فيه العمى الفكري سمة العصر، نحتاج إلى ثوّارٍ لا يحملون السلاح
بل الفكرة، لا يرفعون الصوت بل يرفعون الوعي.
فالأمم لا تنهض بأجسادها،
بل بعقولها.
والمعركة الحقيقية اليوم
ليست بين القوي والضعيف،
بل بين من يفكر ومن توقف عن التفكير.
ولعل أخطر ما في الإعاقة الفكرية
أنّ أصحابها لا يشعرون بها؛
فهم يظنون أنفسهم الأصحاء،
بينما يسيرون في قطيعٍ من أفكارٍ ميتة، يكررونها كأنها وحيٌ منزل.
فلتكن ثورتنا إذن على الجمود
قبل أي شيء،
ولنحارب كل فكرٍ يعطل السؤال،
وكل سلطةٍ تُخيف الكلمة،
ولنرفع شعارًا جديدًا:
من لا يفكر… لا يستحق العيش.
ومن لا يثور على الفكر الظلامي
لا يستحق أن يكون صوتاً تنويرياً .
إنه صوت الوعي
حين يثور على الصمت،
وصوت الفكر الحرّ
حين يعلن أن الإعاقة
ليست عيبًا في الجسد،
بل خيانةٌ في العقل،
وكسلٌ في الضمير،
وجبنٌ في الموقف
وأخيراً،
نغادر بوابة الحكاية لا كما دخلناها،
نخرج منها مثخنين بالأسئلة،
متّقدين بالشك،
نمشي حفاةً على جمر الوعي،
نحمل عقولنا كراياتٍ في وجه العمى الجمعي،
نرفض أن نُساق في صمتٍ إلى مقصلة الاعتياد.
فمن لم يشعل فكره ناراً في ليل الخضوع،
سيبقى رماداً في صباحٍ لا ينتظر الكسالى.
إنها ليست نهاية الحكاية،
بل بدايتها الحقيقية:
حين يثور العقل،
ويكتب الإنسان فصله الأخير بيده.
د. عبد الكريم الحلو
